خبرأونلاین: بین الیأس والأمل، وبین النصر والهزیمة، وبین الاستقلال والتبعیة، تتأرجح حظوظ الثورات العربیة بعد ستة شهور من انطلاق شرارتها فی تونس.

الدکتور سعید الشهابی

بین الیأس والأمل، وبین النصر والهزیمة، وبین الاستقلال والتبعیة، تتأرجح حظوظ الثورات العربیة بعد ستة شهور من انطلاق شرارتها فی تونس.

تداخل عوامل الداخل بالخارج، المبدئیة بالانتهازیة، وشمولیة المبدأ بانتقائیة المواقف، کل ذلک من القضایا التی ترتبط بشکل او آخر بما یجری على الساحات العربیة الیوم. حتى نهایة العام الماضی کان امرا مستصعبا الاعتقاد بامکان اندلاع ثورات عربیة بالنمط والسعة الجغرافیة والشعبیة التی حدثت، خصوصا مع استمرار هیمنة انظمة الاستبداد والدیکتاتوریة فی العالم العربی. فاذا کانت الحرب العراقیة الایرانیة قد حالت دون تمدد الروح الثوریة التی صاحبت انتصار الثورة الاسلامیة فی ایران فی 1979، الى العالم العربی، فان استدعاء القوات الاجنبیة فی 1990 بذریعة 'تحریر الکویت' کان جدارا منیعا کرس الانطباع بعدم امکان احداث التغییر على ایدی الشعوب، واصبح اللاشعور العربی یؤمن بمقولة انور السادات بان 'امریکا تملک 99 بالمائة من الاوراق' فی الشرق الاوسط سواء فی ملف ازمة الصراع مع 'اسرائیل' ام التغییرات الداخلیة. وما تزال الذاکرة تختزن قصة الانقضاض على التجربة الدیمقراطیة الوحیدة التی حدثت بعد ذلک التدخل، عندما تم وأد الانتخابات الجزائریة فی 1992. وکان ثمن ذلک اکثر من 150 الف قتیل فی ذلک البلد. کان التغییر الداخلی مستحیلا الا بموافقة الولایات المتحدة. ویمکن القول ان العقدین اللذین اعقبا استدعاء القوات الاجنبیة کانا من أکثر العقود تخدیرا للجماهیر العربیة. وحتى عندما حدثت انتفاضات هنا او هناک کان القمع الوحشی لها مدعوما سیاسیا من قبل الوجود السیاسی والعسکری الغربی فی المنطقة. فکانت هناک 'انتفاضة الخبز' فی 1984 بتونس، ومثلها فی المغرب فی العام نفسه، ثم فی مصر فی 1986 والاردن فی 1989، وقد قمعت جمیعا تحت الاشراف الامریکی. ثم حدثت الانتفاضة الشعبیة فی البحرین فی النصف الثانی من التسعینات وقمعت بوحشیة. ومع صعود اسعار النفط فی مطلع القرن الجدید، اصبح للمال النفطی دور فی تشکیل خریطة الهیمنة على المنطقة. وکان ثمة اعتقاد بان حوادث 11 سبتمبر الارهابیة سوف تؤدی الى حالة استقطاب لصالح مشاریع الانفتاح والحریة والدیمقراطیة، ولکن القبضة الحدیدیة الانکلو- امریکیة التی اشتدت بعد ازمة الکویت ساهمت فی قمع تطلعات الشعوب العربیة. لقد تکرست ظاهرة 'الأمرکة' بشکل غیر مسبوق، خصوصا بعد ما جرى فی العراق.

وهنا یفتح ملف التدخل الامریکی لاسقاط نظام صدام حسین الذی یمکن اعتبارها الاکثر إثارة للجدل والاختلاف والانقسام. صدام حسین لم یکن الحاکم المقبول من شعبه (بسبب سیاساته القمعیة) او من جیرانه (بسبب مغامراته فی ایران والکویت) او من الولایات المتحدة (بسبب ما تعتبره واشنطن تمردا على ارادتها خصوصا بعد اجتیاح الکویت). مع ذلک فان اسقاطه بالطریقة التی حدثت ما تزال تثیر الاختلاف عندما یتم التطرق لها بالمناقشة او التحلیل او التقییم. لکن المشکلة لا تقف هنا. بل انها تتجدد الآن فی ظروف الثورات العربیة خصوصا فی ضوء ما یجری فی لیبیا (وما قد یحدث فی سوریة). الثورات العربیة تمر الیوم بمنعطف حاد، یفصل بین النصر والاجهاض. ولا تبدو ای من الثورات بمنأى عن ذلک المخاض العسیر. فحتى مصر التی تحاکم دیکتاتورها بشتى التهم، تواجه ذلک المخاض. ففی ندوة أقامتها القوات المسلحة تحت عنوان 'خمسة عشر قرنا.. محبة وإخاء' یوم الخمیس الماضی قال عضو المجلس الأعلى العسکری اللواء أرکان حرب سامی دیاب، أن من الأسلحة التی یواجهها الوطن من أعدائه 'تأیید المتطرفین تارة بالسلاح وتارة باحتضانهم، وأخرى بمدهم بالسلاح والعتاد، ورابعة بإبادتهم، وخامسة بإفشاء الفساد ونشر شتى وسائل الانحطاط خاصة بین الشباب بشتى الطرق تحت اسم الحریة والعولمة، وأن کل هذا بالتزامن مع تدمیر کل ما هو حضاری من اللغة والفنون وغیرها المنتسبة للحضارة الإسلامیة'. وتعانی تونس من محاولات اجهاض الثورة بالابقاء على النظام السابق کاملا ولکن بدون رئیسه، وهذا ما اکده الشیخ راشد الغنوشی، زعیم حرکة النهضة فی ندوة فی العاصمة البریطانیة بمناسبة مرور ثلاثین عاما على تأسیس الحرکة. الامریکیون أشاعوا ان اسقاط صدام حسین سوف یعقبه اقامة تجربة دیمقراطیة رائدة فی المنطقة. ولکن سرعان ما تمت اعادة صیاغة مشروع التغییر بشکل قلل کثیرا من وهج 'التجربة الدیمقراطیة'، بدخول البلاد فی دوامة من الصراع الطائفی الدموی لم تقل وحشیة عما جرى فی الجزائر. وهکذا فما ان تلوح فی الافق بارقة امل بفجر واعد من الحریة حتى یلبد بالغیوم والاعاصیر التی تحیل النهار الى لیل دامس.

لقد ساد اللغط على أشده ازاء تجربة العراق. وکان هنک شبه اجماع على رفض التدخل الامریکی بالقوة لاسقاط النظام. ولا بد من العودة الى الوراء قلیلا لاسترجاع موقف النخب العربیة والشعوب ایضا عندما رفضت جمیعا استدعاء القوات الاجنبیة تحت ذریعة 'تحریر الکویت'. یومها وضعت الفتوى الدینیة فی خدمة السیاسة، فقد عقد فی مکة فی 1990 مؤتمر دعی 413 شخصیة من علماء المسلمین والمحسوبین على قیادات الصحوة والرموز الدینیة من کافة دول العالم الإسلامی الثمانی والخمسین . وحضر منهم 398 شخصیة أصدروا بیانا ختامیا شرع للوجود الأمریکی والتعاون معه ضد العراق بصفتها 'استعانة شرعیة'. لکن تلک الفتوى قوبلت برفض الجماهیر العربیة ضد ذلک التدخل. هذا الموقف الشعبی یشبه موقف التدخل الامریکی فی العراق فی 2003، وهو تدخل جاء بقرار غربی وبدون طلب من شعب العراق، وان کانت فئات محدودة قد شجعت ذلک التدخل. هذان الموقفان عکسا رد الفعل الطبیعی من الامة التی تشبثت بقیمة الحریة حتى فی احلک ظروفها، ورفضت الاستعانة بالاجنبی خصوصا فی ازماتها الداخلیة. وقد یناقش البعض فی مدى واقعیة هذا الموقف وعقلانیته وحکمته، ولکنه، أیا کان الامر، یؤکد فطریة الامة فی مواقفها اذا لم تخضع للتأثیرات الخارجیة او توجیه الطبقات العلمیة والسیاسیة العلیا. ان المبدأ الذی التزمته جماهیر العرب والمسلمین فی 1990 و 2003 یطرح للنقاش الیوم، حول الجهة نفسها التی کانت موضع النقاش آنذاک. فالتدخل الغربی فی لیبیا لا یختلف کثیرا عن تدخله فی الکویت او العراق، وکما کان سببا للجدل والاختلاف آنذاک، فانه اصبح مثارا للاختلاف الیوم. فنظام معمر القذافی استبدادی دموی، ثار الشعب بهدف اسقاطه، فتعرض للقصف والتدمیر، وهو وضع لا یختلف کثیرا عما جرى فی العراق بعد حرب 1991 عندما حدث ما یسمى 'الانتفاضة الشعبانیة' ضد نظام صدام حسین، فسمحت الولایات المتحدة له باستعمال الطائرات لاجهاضها. الیوم یتکرر السیناریو نفسه، فتنقض قوات القذافی على الثوار فی کافة المناطق بالقصف والقتل الجماعی. وهنا تصدر استغاثات هؤلاء الثوار للغرب بطلب التدخل العسکری. الغربیون تدخلوا فی بدایة الامر بالقصف الجوی لقوات القذافی، حتى وصل الامر الى حالة الجمود المیدانی، بین طرفین متحاربین، النظام والثوار الذین تحولوا الى مقاتلین. الجدل یحتدم الآن حول مدى شرعیة الاستعانة بالتدخل الخارجی على غرار ما جرى فی الکویت والعراق مع الاخذ بعین الاعتبار تشابه الاوضاع الى حد کبیر. انه تحد فکری ونفسی وایدیولوجی وسیاسی ومبدئی للجمیع. والخشیة هنا حدوث انفصام فی الشخصیة وتباین فی المواقف وازدواجیة فی المعاییر خصوصا فی طبقات العلماء والقادة السیاسیین وزعماء الاحزاب الاسلامیة وغیر الاسلامیة والنخب المثقفة والاعلام والرأی العام الشعبی.

ان الرفض المطلق للتدخل الغربی بقیادة امریکا فی الکویت والعراق یفرض نفسه کمبدأ وموقف على الوضع اللیبی. فاذا کان ذلک التدخل مرفوضا، فما الذی یجعل تدخل واشنطن هذه المرة مقبولا؟ خصوصا ان الفرق بین نظامی بغداد وطرابلس ضئیل جدا، وقد یدعی العراقیون ان نظامهم أکثر قسوة من نظام القذافی، مع ان القسوة لیست وحدها المعیار لتحدید الموقف ازاء التدخل العسکری. فاذا کان استدعاء القوات الاجنبیة إبان أزمة الکویت مرفوضا، فان استدعاءها الان یجب ان یکون مرفوضا کذلک. واذا کان تدخلها فی العراق قبل ثمانیة اعوام غیر مشروع، وهو تدخل کان بقرارها ولیس وفق استدعاء من الشعب العراقی، فما الذی یجعله مشروعا هذه المرة؟ الامر المؤکد ان نظام القذافی یجب ان یسقط بعد ما اقترفه من جرائم بحق الشعب على مدى اکثر من اربعین عاما، وهذا امر لیس موضع خلاف بین الغالبیة العاقلة من العرب والمسلمین. انما الاختلاف یکمن فی مدى شرعیة الاستعانة بالاجنبی للتدخل الذی لا یمکن ان یکون بدون ثمن. لقد کان صدام حسین اکثر مواجهة للغرب، واتهم بامتلاک اسلحة دمار شامل (مع ان ذلک لم یثبت حتى بعد اسقاط النظام والبحث الشاق عن تلک الاسلحة المزعومة)، بینما تتمیز علاقات القذافی بالغرب وخصوصا امریکا بقدر من التصالح، فقد دفع تعویضات هائلة تجاوزت ثلاثة ملیارات دولار لتسویة قضیة تفجیر طائرة (بان آم) الامریکیة فوق لوکربی البریطانیة، وسلم مشروعه النووی کاملا لواشنطن، حیث بعث اجهزته کاملة فی شاحنات الیها، ولم یعد هناک من مشاکل کبیرة بین الطرفین. فما الذی یدفع التحالف الانکلو - امریکی للتدخل بهذا الشکل؟ ومن الذی یستطیع فرض شروط على ذلک التدخل؟ وهل یعقل ان یتدخلوا بدون مقابل وهم الذین ما برحوا یقتلون الابریاء بالصواریخ والطائرات بدون طیار فی باکستان وافغانستان والیمن والصومال؟ اما من یقول بان تدخلهم یأتی بهدف انجاح الثورة او الدفاع عنها فهو ساذج لان منطق الثورة لا یدخل قاموس السیاسة الغربیة. هذا مع الاعتراف والتسلیم بان خیارات الشعب اللیبی فی مواجهة دیکتاتوره محدودة، وانه یواجه خطر التعرض للمزید من القصف والتدمیر.

لا بد من الاعتراف هنا بان الکتابة حول موضوع التدخل الانکلو - امریکی فی لبیبا من اعقد الامور واشدها ضغطا على النفس والمشاعر، خصوصا مع مشاهدة الاطفال والنساء المحاصرین من قبل قوات القذافی. فالمفترض ان قیم الحریة ثابتة لا تخضع للمقاییس والمصالح، وان المبادىء ثابتة ومنفصلة عن المصالح وقد تتضارب معها احیانا. مع ذلک فما ان یکتب مفکر حر رأیا لا یوافق قوى الثورة المضادة حتى تنبری له الاقلام المأجورة بالدولار النفطی من کل حدب وصوب لتسفیه رأیه وکیل الاتهامات واللعنات والنعوت اللاذعة له. ویندر ان یواجه الرأی بالرأی والدلیل بالدلیل، بل استبدل الحوار العلمی بالبلطجة الاخلاقیة والفکریة، واستبدل الفکر والحکمة والمنطق والمبدأ بالسباب والشتائم، فلم یعد هناک ما هو مقدس، على المستویین المادی والمعنوی. فاذا کانت ارواح شباب الامة قد رخصت على هؤلاء الحکام الظالمین ومن یدعمهم فی واشنطن ولندن، فلربما اصبحت القیم والاخلاق والانتماء لدین الاسلام وقیم القرآن أرخص وأشد تعرضا للهتک والاستخفاف والازدراء. واذا کانت بلطجیة حسنی مبارک قد استهدفوا الثوار فی ارواحهم، فان بلطجة ما بعد ثورة مصر توسعت وأضیفت الیها ابعاد فکریة تهدف لاستئصال قیم الامة التی یفترض انها تعمقت على الاقل فی نفوس رواد المشروع الاسلامی المعاصر. فمن یجرؤ الیوم على استعمال مفردات من نوع 'الأسلمة' او 'الشریعة' او 'الجهاد' أو 'الاسلام هو الحل'؟ ففی غضون اقل من عشرة اعوام تحولت هذه المصطلحات الى محرَمات لغویة وسیاسیة، وهیمنت على الثقافة الشعبیة العامة نزعات تسعى لاقناع الغرب بان العرب والمسلمین قد 'تحرروا' من کل ذلک. لم یحدث ذلک عفویا بل کان ضمن مشروع 'التطهیر الفکری' الذی تظاهر بانه تراجع عن ربط الارهاب بالاسلام. فبعد حوادث 11 سبتمبر، سعى الاسلامیون جمیعا فی لحظة غضب شاملة للاحتجاج ضد ربط الاسلام بالارهاب. ونظرا لاحتیاج واشنطن وحلفائها لمواقفهم فی ما سمی 'الحرب ضد الارهاب' استبدلت صفة الاسلام بـ 'الجهاد'، واشیع مصطلح 'الجهادیون' لوصف الارهابیین. وبذلک تم الحفاظ على مصطلح الاسلام بعدم ربطه مباشرة بالارهاب (فی بعض الاحیان ولیس کلها، وفقا لمقتضى المصلحة الغربیة) بعد افراغه من واحد من اهم مرتکزاته 'الجهاد'، حتى اصبح الجهاد قیمة مرفوضة فی الثقافة السیاسیة للحرکات الاسلامیة، خشیة اثارة حفیظة الغربیین، اصبح مرادفا للارهاب. ان ثورة لیبیا، وکذلک بقیة ثورات العالم العربی، تتحول تدریجیا من علاج لجراح طالما نزفت بسبب قمع الجلادین والمستبدین، الى جروح تتجدد یومیا مع امعان قوى الثورة المضادة بهدف الاجهاض على ما بقی من اصوات حرة تصر على استعادة الحریة والکرامة بأی ثمن. فما صراخ النساء والاطفال فی غرف التعذیب حتى هذه اللحظة الا مؤشر لصعوبة مهمة التحرر من الاستبداد. ما تأجیل الحسم فی الیمن عبر التدخل السعودی المباشر بدعم علی عبد الله صالح الا خطوات تهدف للقضاء على معنویات الثوار الذین قدموا من التضحیات الکثیر. وما الاحکام القاسیة بسجن قادة الثورة فی البحرین الا واحد من الجروح الناجمة عن تدخل قوى الثورة المضادة لاجهاض حرکات الشعوب. ان قوى الثورة المضادة تساوم الشعوب الثائرة بین تسلیم الامر کله لها، بما فی ذلک انظمة الحکم الجدیدة واتجاهاتها وولاءاتها، او تجرع غصص الموت بالصواریخ والدبابات وبالرصاص الحی فی الشوارع او الموت بمباضع الجلادین فی غرف التعذیب. برغم ذلک فان ذلک لیست نهایة المطاف للشعوب الثائرة، فان صمدت فترة اطول وتمسکت بقیم الاستقلال والحریة، وحافظت على نقاء ثوراتها، فسیکون النصر حلیفها، لان الشعوب لا تقهر، بشرط ان لا تستسلم قیاداتها او تساوم على القیم والمبادىء الاساسیة للثورة، او تمارس ازدواجیة المعاییر او تضعف امام القمع والابتلاء.

 ' کاتب وصحافی بحرینی یقیم فی لندن

رمز الخبر 165722